مدونة البوابة

إعادة النظر في حماية المستهلك: منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي

مستهلك يشتري من متجر صغير للأقمشة والخزف في الإمارات العربية المتحدة في دسمبر/كانون الأول 2022. الصورة بعدسة أدي سمعان لبوابة الشمول المالي للتنمية، سيغاب.

أسفرت عن جهود الرقمنة السريعة على مدى السنوات القليلة الماضية، والتي تسارعت أثناء جائحة كوفيد-19، حلول مالية جديدة تتيح شمل العديد من الفقراء في القطاع المالي الرسمي. فمع بروز أزمات متعدّدة في مختلف دول العالم، من بينها أزمة تغيّر المناخ وغياب الاستقرار السياسي وأزمة الغذاء، أضحت هذه الخدمات المالية الرقمية الجديدة* مهمّة جدًا للمستهلكين لأنّها تعزّز قدرتهم على الصمود وتتيح لهم بناء مستقبل أفضل. تُساهم هذه الخدمات، بما فيها منتجات المدخرات الرقمية، والمنتجات الائتمانية، ومنتجات الدفع والتأمين والاستثمار، في فتح فرص هامّة ستغيّر حياة المستهلكين من ذوي الدخل المنخفض من خلال مساعدتهم على الادخار والاقتراض وتلقّي التحويلات المالية.

يُظهر تحليلنا الذي أجريناه مؤخرًا حول التطوّر العالمي للمخاطر على المستهلك الناتجة عن الخدمات المالية الرقمية أنّ طبيعة هذه المخاطر تتغيّر بين فترة وأخرى ويتزايد حجمها أحيانًا بسرعة أكبر من الفرص التي تتيحها الخدمات المالية الرقمية. ويمكن أن تتسبّب هذه المخاطر على المستهلك في خسائر مالية مباشرة وغيرها من الأضرار التي تزيل الثقة بين العملاء** وثقتهم في طريقة استخدامهم للخدمات المالية الرقمية وتردع مستخدمين جدد من اعتمادها. ورغم أنّ أسباب المخاطر على المستهلك غير واضحة تمامًا، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ نمو المخاطر يعود إلى مجموعة من العوامل المختلفة، وهي سرعة انتشار الخدمات المالية الرقمية وتوسّعها، وتحوّل النظام المالي، وارتفاع عدد مزوّدي الخدمات غير التقليديين، وتدنّي مستوى الثقافة الرقمية لدى المستهلكين ذوي الدخل المنخفض، لاسيّما النساء.

هذا وتُواجه آليات حماية المستهلك تحدّيات في تتبّع السوق سريعة التطوّر حيث تنتشر الممارسات السيئة بشكل أسرع من انتشار الخدمات المالية وإجراءات التصدّي لها. وعلى الرغم من التقدّم المُحرز خلال العقود الماضية في تعزيز حماية المستهلك، حيث شهدنا قوانين جديدة لحماية المستهلك، وإقامة هيئات جديدة لضبط سلوك الأسواق وحماية البيانات، بالإضافة إلى وضع قواعد سلوك يتعين على مزوّدي الخدمات المالية الرقمية الالتزام بها، وانتشار برامج التثقيف المالي، واعتماد مبادرات مختلفة من قبل المجتمع المدني، لم يتم احتواء الممارسات غير المسؤولة بشكل ناجح، ممّا يثير التساؤل حول ما إذا كانت قواعد حماية المستهلك وآلية تطبيقها والتكتيكات الأخرى النافذة تكفي هذه السوق المتغيّرة بسرعة وتُناسبها.

التغيّر السريع لسوق التمويل الرقمي يتطلّب نهجًا شاملاً جديدًا في التعامل مع حماية المستهلك، ونحن نعتقد أنّ الوقت قد حان الآن لبناء "منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي".

وتجد أبحاث "سيجاب" أنّه حان الوقت لإعادة تقييم النهِج المُعتمد في حماية المستهلك في وقت نشهد فيه بروز العديد من الهيئات الرقابية الجديدة ودخول منتجات وخدمات جديدة ومبتكرة إلى السوق وارتفاع عدد المستهلكين الضعفاء بسبب الأزمات الأخيرة. فالتغيّر السريع لسوق التمويل الرقمي يتطلّب نهجًا شاملاً جديدًا في التعامل مع حماية المستهلك، ونحن نعتقد أنّ الوقت قد حان الآن لبناء "منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي" تجمع بين الأطراف الفاعلة الأساسية في السوق مثل المستهلكين، ومزوّدي الخدمات المالية الرقمية، وصانعي السياسات، وميسّري السوق (مثل الجهات المموّلة والباحثين والمبدعين) لإيجاد حلول لتحليل المخاطر على المستهلك وإدارتها والحدّ منها. ومن المحتّم أنّ مثل هذه المنظومة ستصبّ في مصلحة الجميع، ولكن هي ما مستلزماتها وما يضمن نجاحها؟

نشرح في هذه المقالة النهج المستهدف للمنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي وأهميته وكيف يمكن وضعه بشكل متضامن بين الأطراف الفاعلة الرئيسية. وعلى الرغم من أنّنا ما زلنا في المراحل المبكرة من عملية وضع هذا الإطار المفاهيمي، إلاّ أنّنا نركّز هنا بشكل حصري على المقوّمات الرئيسية التي نعتبرها ضرورية لبناء منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي، وهي التركيز على العملاء، وبناء القدرات، وتحقيق التعاون. ولأن هذه النظرة إلى حماية المستهلك في العصر الرقمي نظرة جديدة من نوعها، فنحن نتوقع إثراء هذا النهج عبر اختباره خلال السنوات القليلة المقبلة وجمع المدخلات من جميع الشركاء المعنيين في الموضوع.

دوافع الحاجة إلى اعتماد نهِج جديد في حماية المستهلك في الخدمات المالية الرقمية

ساهم توسّع الخدمات المالية الرقمية خلال العقد الماضي في تحوّل الشمول المالي وسيستمر في التأثير عليه. وثمّة أدلّة وافرة تشير إلى أنّ الخدمات المالية الرقمية كانت دافعًا ممتازًا للشمول المالي حيث ساعدت المستهلكين من ذوي الدخل المنخفض في مختلف مناطق ودول العالم على تعزيز قدرتهم على الصمود واغتنام الفرص. على سبيل المثال، عندما انتقل برنامج راسكن في إندونيسيا للمساعدات الغذائية من النقد إلى التقنية الرقمية، بدأ 90% من بين 1.4 مليون مستفيد يتلقون المزيد من الغذاء بشكل منتظم. وفي كينيا، انخفضت نسبة الأسر التي فوّتت الفرص من جراء الصدمات السلبية عندما بدأت تستخدم خدمة M-Shwari بنحو 6.3%.

وفقًا لمؤشر الشمول المالي للعام 2021، أدّت الزيادة في المدفوعات الرقمية بسبب جائحة كوفيد-19 إلى إتاحة الخدمات المالية الرسمية بشكل أوسع على المستوى العالمي. ففي الاقتصادات النامية، يمتلك 71% من الناس حاليًا حسابًا في مصرف أو مؤسسة مالية أخرى أو لدى مزوّد خدمات مالية على الأجهزة المحمولة (مقابل 63% في عام 2017). وعلى الرغم من الانتشار المتزايد للخدمات المالية الرقمية وزيادة استخدامها، لا يوجد دليل قوي على أنّ جودة الخدمات المالية قد تحسّنت. على سبيل المثال، ثمّة مناطق يستخدم معظم السكان فيها الخدمات المالية الرقمية، ولكن مستوى الصحة المالية فيها منخفض. في الواقع، بسبب تحوّل القوى المُحركة للسوق، برز عدد من العوائق التي لا بدّ من معالجتها لتبقى الخدمات المالية الرقمية دافعًا مسؤولًا للشمول المالي.

مخاطر الخدمات المالية الرقمية هي مخاطر متغيّرة بطبيعتها ومتنامية عددًا وحجمًا

في حين أنّ الخدمات المالية الرقمية تتيح الوصول الشمولي إلى الخدمات المالية، بيّنت الأبحاث التي أجرتها "سيغاب" أنّ مخاطر الخدمات المالية الرقمية متغيّرة بطبيعتها. هذا ولقد ظهرت مخاطر جديدة خلال السنوات القليلة الماضية، مثل الاحتيال على تطبيقات الهاتف المحمول، والاحتيال في الهوية الحيوية، والتحيّزات الحسابية، والاحتيالات المرتبطة بالتشفير، وحيل الدفع المجاز، وهي ناتجة بشكل مباشر عن مزوّدي الخدمات عديمي الضمير الذين يلحقون أضرارًا كبرى بالعملاء والسوق، حتى وإن قلّ عددهم. على سبيل المثال، يخفي بعض مزوّدي الائتمان الاستهلاكي الرقمي في كينيا وتنزانيا والهند أسعار الفائدة الباهظة من خلال إعلانات زائفة لجر العملاء أحيانًا إلى فخ الديون. وتجدر الإشارة إلى هذه المخاطر تخلّف عواقب أكبر على النساء ذوات الثقافة المالية والرقمية المتدنية مقارنة بالرجال، اللواتي غالبًا ما يحصلن على خدمات أقل جودة من الرجال أو لا يحصلن عليها على الإطلاق بسبب العادات الاجتماعية المقيّدة. ولقد بيّن الاستبيان الوطني الأخير الذي أجريناه في ساحل العاج أنّ النساء أكثر عرضة للمخاطر السيبرانية من الرجال.

إلى ذلك، يتزايد حجم المخاطر على المستهلك من جرّاء الخدمات المالية الرقمية. فمن بين الأنواع الأربعة من المخاطر التي ذكرناها، مثل الاحتيال وغياب الشفافية وإساءة استخدام البيانات وآليات الإنصاف غير الكافية، نرى أنّ نسبة الاحتيال وإساءة استخدام البيانات ستتزايد على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، ويعود ذلك بشكل مباشر إلى الأمن السيبراني. وأظهر بحثنا أيضًا أدلّة متزايدة على تدنّي مستوى الشفافية، ولكن لم يسعنا الجزم في ما يتعلق بمستوى آليات الإنصاف حيث لا تتوفر بيانات كافية عنها. على سبيل المثال، يتزايد عدد المعاملات الاحتيالية على التطبيقات بشكل أسرع عالميًا من ارتفاع نسبة استخدام التطبيقات للحصول على الخدمات المالية. وفي جنوب أفريقيا، تضاعفت حوادث الاحتيال من خلال تبادل شرائح الهاتف في القطاع المصرفي بين عامي 2017 و2020، في حين ارتفع عدد المشتركين في خدمة الهاتف المحمول بنسبة أقل من 10% خلال الفترة ذاتها.

عدد أكبر من مزوّدي الخدمات المالية الرقمية يلتحقون بالمنظومة البيئية، ومعهم يأتي عدد أكبر من الفرص والمخاطر

مع الدور المتزايد للمنصّات وشركات التقنية المالية والخدمات المالية المُدمجة في توسيع الشمول المالي، بدأنا نشهد تزايدًا سريعًا في عدد الأطراف الفاعلة التي تنضمّ إلى المنظومة البيئية. وبدأت تتزايد الخدمات المالية المقدّمة على المنصات بشكل سريع، وتضاعف حجم المعاملات على المنصات الكبيرة بين عام 2015 وعام 2018 حيث بلغت 304.5 مليار دولار أميركي في عام 2018. وفي الوقت نفسه، تضاعف عدد الشركات الناشئة في مجال التقنية المالية على المستوى العالمي منذ عام 2017، حيث تجاوز عددها 26,000 شركة في تشرين الثاني 2021.

وفي حين أنّ العديد من مزوّدي الخدمات يقدّمون حلولاً مالية مبتكرة تصل إلى الأشخاص المهمّشين على نطاق أوسع، إلاّ أنّ هذه الخدمات تعرّض المستهلكين أيضًا إلى مخاطر جديدة، لاسيّما مخاطر الاحتيال ومخاطر سوء استخدام البيانات. ولعّل أزمة الإقراض بين النظراء في الصين خير دليل على ذلك، حيث عمد مزوّدو الاستثمار عديمي الضمير على وضع مخططات بونزية، إلى الحدّ الذي دفع السلطات الصينية إلى إغلاق معظم شركات الإقراض بين النظراء التي نشأت بين عام 2018 وعام 2020 في الصين، والتي بلغ عددها 5,000 شركة. ورُغم صعوبة تحديد عدد الضحايا، خسر الملايين من الناس الأموال التي اعتقدوا أنهم استثمروها بحكمة. ومن الأمثلة الأخرى ظهور تطبيقات الائتمان الرقمي في الهند خلال جائحة كوفيد-19. ووفقًا لتقديرات "سيجاب" و"دفارا"، فإن أكثر من 150 تطبيقًا من هذه التطبيقات كانت تعمل في البلاد على نحو غير قانوني بشكل عام بحلول يوليو2021، ووجدت أبحاثنا أنّ مزوّدي الخدمات أساءوا في العديد من الحالات استخدام بيانات العملاء لأغراض تحصيل الديون.

لا تُطبّق آليات رقابية واشرافية فعّالة على المزوّدين الجدد للخدمات بشكل عام رُغم ظهور هيئات رقابية جديدة 

بهدف حماية المستهلكين بشكل أفضل، قامت العديد من الدول المتقدّمة والنامية بإنشاء هيئات جديدة للإشراف على سلوك السوق وحماية المستهلك. ووضعت العديد من هذه الهيئات، بما فيها الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية الرقمية، تنظيمات ولوائح محدّدة لحماية المستهلك المالي. ومع استخدام البيانات في الخدمات المالية بشكل متزايد، شهدنا أيضًا أمثلة على ظهور سريع لأطر رقابية وإشرافية لحماية البيانات. على سبيل المثال، اعتمدت 61% من الدول الإفريقية تشريعات لتأمين حماية البيانات والخصوصية، ويوجد في 87 دولة في العالم على الأقل هيئات معنية بحماية البيانات، كما تشارك العديد من الهيئات الأخرى في هذه المنظومة البيئية كما سنشرح لاحقًا.  

وعلى الرغم من التقدّم المُحرز حتى الآن، من بين كل أربعة بلدان منخفضة الدخل في العام 2017، واحد منها لم يعمد إلى وضع ترتيبات مؤسسية محدّدة لحماية المستهلك المالي، ولم يضع سوى بلد واحد من بين كل ثلاثة بلدان بنودًا محدّدة خاصة بحماية المستهلك في لوائحه المالية. باختصار، لا يُعد النهج الحالي كافيًا أو شاملاً لتوفير منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي، ويتّضح ذلك من خلال الغموض الذي يكتنف العديد من الاختصاصات القضائية بشأن تصنيف الأطراف الفاعلة الرقمية الجديدة والقواعد التي تنطبق عليها لأن العديد من الهيئات أصبحت معنية بالخدمات المالية الرقمية.  

وفي الكثير من الأحيان، تتولّى الهيئات الجديدة مسؤوليات مماثلة لأدوار الهيئات الأخرى القائمة، أو مسؤوليات متداخلة معها. ورُغم أنّ أنواعًا محدّدة من الهيئات الرقابية ترتبط ارتباطًا جيدًا بأقرانها على المستوى الدولي، ولكن غالبًا ما تفتقر مختلف الهيئات الرقابية داخل البلد إلى آليات تتيح لها التعاون في ما بينها. على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بالائتمان الرقمي، تتولّى الهيئات الرقابية المالية عادة مسؤولية تنظيم الائتمان، ولكن لأنّ الائتمان الرقمي يعتمد على خوارزميات تُعالج بيانات العملاء، فإنّ الهيئات المسؤولة عن حماية البيانات معنية كذلك، ولكنها لا تشارك دائمًا. 

وقد نشرت بعض الهيئات أدوات لمتابعة السوق لمساعدتها على فهم المخاطر التي تولّدها الأطراف الفاعلة الجديدة، ولكن لا يزال العديد منها غير قادر على الوصول إلى هذه الأدوات أو إلى الموارد الأخرى التي تحتاج إليها لرصد السوق ومتابعته. وأفادت الهيئات الرقابية والاشرافية التي تفاعلنا معها أنّها غالبًا ما تعتبر الموارد الداخلية عائقًا أمام تنظيم بعض الابتكارات الأخيرة في السوق والإشراف عليها، مثل ظهور العملات المُشفّرة التي تُستخدم أحيانًا بطريقة احتيالية. إلى ذلك، يركّز العديد من الهيئات الرقابية والاشرافية على ضمان التزام مزوّدي الخدمات بمعايير الامتثال المناسبة، ولكن لا لا يتم التركيز كثيرًا على تقييم فعّالية حماية العملاء. ولا يُتيح النهج الحالي للهيئات الرقابية استعراض الصورة الكاملة للمخاطر على المستهلكين ولا يسمح لها بقياس بشكل كاف أثر سياسات حماية المستهلك على تنظيم الحياة المالية للناس والاشراف عليها.

وبهدف تثقيف المستهلكين بشكل أفضل، وضَعت الحكومات برامج للتثقيف المالي من خلال وزارات التعليم في بعض الأحيان ومن خلال هيئات القطاع المالي أحيانًا أخرى. ولكن ليس من الواضح بعد ما إذا كانت هذه البرامج تتطوّر بالسرعة الكافية في ضوء الرقمنة السريعة للخدمات المالية.

من هي الأطراف الفاعلة الرئيسية في المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي؟  

تضمّ المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية أربعة أطراف فاعلة رئيسية: مزوّدي الخدمات المالية الرقمية، ومزوّدي الخدمات المالية، وصانعي السياسات، وميسّرو السوق.

ويصب المستهلكون، بشكل عام، في جوهر المنظومة البيئية، حيث بعضهم من المستخدمين الحاليين للخدمات المالية الرقمية (أي العملاء)، في حين بعضهم الآخر ما زال يعتمد على الخدمات المالية غير الرسمية. ويتمتع بعض المستهلكون بمستوى جيد من الثقافة المالية والرقمية، في حين يتدنى مستوى الثقافة أو أحيانًا ينعدم لدى البعض الآخر مثل العديد من النساء منخفضات الدخل. ويتعرّض بعض العملاء بشكل خاص إلى المخاطر بسبب ظروف شخصية معاكسة، مثل المرض، ويتمّ تمثيلهم في بعض الأحيان في المنظومة البيئية من خلال رابطات المستهلكين.  

تضمّ المنظومة البيئية أيضًا مزوّدي الخدمات المالية الرقمية، من بينهم المصارف القائمة، ومشغّلي شبكات الهاتف المحمول، ومؤسسات التمويل الأصغر وشركات التقنية المالية، والمنصّات، والأنواع الجديدة من المصارف الرقمية. وتعمل المنظومة البيئية بالكامل بموجب السياسات واللوائح التي تضعها مجموعة متنوّعة من الهيئات الرقابية والاشرافية والوزارات وغيرها من الهيئات في مجال الخدمات المالية الرقمية على المستويين المحلي والدولي، والتي نشير إليها بـ "صانعي السياسات".  

ويضمّ ميّسرو السوق أطراف فاعلة متنوعة كثيرًا ما تؤدي العديد من الوظائف التي تُساهم في تعزيز مستوى مسؤولية المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية، بما في ذلك توفير التمويل المؤقّت (مثلًا، الجهات المموّلة)، وحلول التقنية (مثلاً، مطوّري التطبيقات)، والمعرفة العامة (مثلًا، الباحثين)، فضلاً عن هيئات الدعم (مثل المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الشمول المالي من أجل التنمية). وكثيرًا ما يتفاعلون مع أطراف فاعلة مختلفة في المنظومة البيئية. ويمكن للجهات المموّلة، على سبيل المثال، أن تؤدي دورًا هامًا في المنظومة البيئية من خلال توفير الحوافز والدعم لجميع الأطراف الفاعلة الأخرى في المنظومة. وقد أظهر الاستبيان الأخير للجهات المموّلة الذي أجرته "سيجاب" أنّ التمويل المسؤول يشكّل أولوية متزايدة بالنسبة للعديد من الجهات المموّلة. وفي استبيان نوعي شاركت فيه 31 جهة مموّلة، تصدّرت حماية المستهلك أهم أولويات التمويل للسنوات الخمس المقبلة. وإذا ما تمّ تخصيص التمويل على نحو جيد فإنّه سيسمح ببناء منظومات بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي.  

يأخذ نهج المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي في الاعتبار الأدوار الفردية التي يؤديها المستهلكون ومزوّدو الخدمات وصانعو السياسات وميسّرو السوق، وعلاقاتهم مع بعضهم البعض. وغالبًا ما تكون هذه التفاعلات والعلاقات جديدة وتتطلب رعاية.

كيف يمكننا أن نبني معًا منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي؟ 

يتبع نهج المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي نهجًا شاملاً وأقل تشتتًا في حماية المستهلكين. ويعني ذلك أنّ جميع الأطراف الفاعلة الرئيسية في المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية، أي المستهلكين ومزوّدي الخدمات وصانعي السياسات وميسرّي السوق، يتفاعلون بطريقة تحمي العملاء الذين يستخدمون الخدمات المالية، لاسيّما النساء والمستهلكين الضعفاء، وتضمن لهم النتائج الإيجابية. ويركّز النهج على تعزيز مسؤولية كل من الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية وتفاعلاتها. وبهدف ضمان وصول المستهلكين إلى هذه الخدمات واستخدامها، ندرك أنّ المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية تتطلّب بنية تحتية متعدّدة الجوانب وإطار عمل للسياسات، بالإضافة إلى عناصر مثل الاتصال، والمعرّف الرقمي، وإمكانية التشغيل المشترك، ولوائح النقد الإلكتروني. ولكن لكي تعمل المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية بطريقة مسؤولة، لا بدّ للأطراف الفاعلة الرئيسية التي تسعى جميعها إلى توليد القيمة للعملاء ومزوّدي الخدمات والمجتمع استيفاء ثلاثة شروط على الأقل وهي: التركيز على العملاء، وبناء القدرات، وتحقيق التعاون. ورُغم أنّ هذه الشروط قد لا تكون كافية، إلاّ أنّنا نعتبرها مبادئ ضرورية يتعين الاستناد إليها لبناء منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي، والتي تشكّل محور تركيزنا في هذا القسم، حيث تشكّل المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي، من خلال استيفاء هذه الشروط الثلاثة، نهجًا يفيد كل من صانعي السياسات ومزوّدي الخدمات والمستهلكين، بدعم من ميسّري السوق. 

1.     التركيز على العملاء يعزّز عملية حماية المستهلكين من خلال وضعهم في صميم أي مبادرة

إنّ مزوّدي الخدمات الذين يعتمدون نموذج عمل يُركز في جوهره على العملاء لا يُساهمون في توليد قيمة عمل مستدامة من خلال جذب العملاء والاحتفاظ بهم فحسب، بل يحوّلون أيضًا مسؤولية حماية المستهلك من العميل إلى مزوّد الخدمات المالية. ويتطلّب هذا النهج من مزوّدي الخدمات التركيز على العملاء بدلاً من المنتجات وتنمية هذه المنتجات بناًء على احتياجات العملاء. كما يتطلّب من القيادة بناء رؤية وثقافة تركّزان على العملاء داخل المؤسسة. فالمؤسسات التي تركّز على العملاء عادةً ما تعتمد هيكلاً أكثر ملائمًا لخدمة العملاء في مختلف مراحل رحلتهم. ونحن نعتقد أن اعتماد مثل هذا النهج من شأنه بناء ثقة المستهلكين وحمايتهم بشكل أفضل من المخاطر.  

على سبيل المثال، تستخدم مؤسسة بايونير للتأمين الأصغر في الفلبين نموذج عمل يركّز على العملاء في أنشطتها المرتبطة بالتأمين الأصغر. فبعد ترسيخ ثقافة أكثر تركيزًا على العملاء لموظفيها وجمع المعطيات بشكل ناشط من العملاء، نجحت المؤسسة في زيادة مستوى رضا العملاء عن المشاكل التي تمّ حلّها من 7 في المئة إلى 67 في المئة خلال سنة. وبهدف تعزيز تصرّفاتهم المسؤولة مع عملائهم، يتعيّن على مزوّدي الخدمات الرقمية أولاً اتباع التوجيهات التي تضعها المؤسّسات المختصّة مثل مجموعة العمل المعنية بالأداء الاجتماعي. وتتخذ المنصّات الكبرى الإجراءات اللازمة عندما ترى أنّ عملاءها غير راضين عن الخدمات المالية التي تدعمها (على سبيل المثال، حذفت جوجل تطبيقات الائتمان الاستهلاكي الانتهازي من متجر الألعاب في الهند). 

وبالنسبة إلى الهيئات المعنية بحماية المستهلك المالي والهيئات الأخرى التي تشرف على الخدمات المالية الرقمية، يمكن التركيز على العملاء بشكل أفضل عبر سبل متعدّدة، ولعلّ السبيل الأكثر تقدّمًا للهيئات الرقابية هو أن تتخذ نهجًا يبتعد فيه التركيز الرقابي عن ضمان امتثال مزوّدي الخدمات بالقواعد المنصوص عنها ويتحوّل إلى النتائج المترتّبة على العملاء والتي تنتج عن منتجات مزوّدي الخدمات المالية وتقديم الخدمات والسلوك والممارسات. فاعتماد نهج قائم على التركيز على النتائج المترتّبة على العملاء في إطار مساعي حماية المستهلك يسمح للهيئات الرقابية بقياس ما إذا كان يتم تقديم الخدمات المالية بشكل مسؤول ويتم تكييفها مع الاحتياجات المباشرة للعملاء. 

كما أنّ تعزيز التركيز على العملاء يعني كذلك مراعاة أصوات المستهلكين في اللوائح المالية، وذلك من خلال التفاعل مع رابطات المستهلكين الذين يمكنهم أن يؤدّوا دورًا بناءً في هذا المنظومة البيئية بهدف ضمان مراعاة أصوات النساء وفئات المستهلكين الضعفاء في المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية.  

وبالنسبة إلى ميسّري السوق، قد يشير التركيز على العملاء إلى العديد من الأمور. فبالنسبة للجهات المموّلة العاملة كميسرين في السوق، يعني التركيز على العملاء التركيز بشكل كبير في استراتيجياتهم ومشاريعهم ودعمهم على تجارب العملاء والنتائج المترتّبة على العملاء بعد الحصول على الخدمات المالية واستخدامها. وقد يشمل ذلك، على سبيل المثال، التشاور مع العملاء ومجموعات المستهلكين خلال عملية تصميم المشاريع مع مزوّدي الخدمات وخلال وضع السياسة ذات الصلة. وبالنسبة لميسّري السوق الآخرين، يعني التركيز على العملاء دعم أي نشاط يمكّن المستهلكين أو يساهم في تمكينهم.

وفي النهاية، يعني التركيز على العملاء، بالنسبة إلى جميع الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية، الاهتمام بالنتائج المترتّبة على العملاء، أي الاهتمام بأثر أفعالهم على العملاء.

2.     الأطراف الفاعلة الرئيسية قادرة على المساهمة في منظومة بيئية مسؤولة

يجب أن تملك كافة الأطراف الفاعلة القدرات المناسبة لأداء دور مسؤول، ولكن قد تختلف القدرات بحسب الطرف. 

يتعيّن تمكين المستهلكين من خلال تزويدهم بالمعرفة والحوافز اللازمة لاتخاذ الخيارات المناسبة عند استخدام الخدمات المالية، وثمّة أدلة متزايدة على إمكانية تحسين قدرات المستهلكين من خلال اتباع النهج الصحيح من جانب جميع الأطراف الفاعلة الرئيسية في المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي، بما فيها الهيئات المالية. وعلى الرغم من تداول هذه المسألة منذ عدّة سنوات، بيّن آخر تحليل شمولي أنّ الثقافة المالية يمكنها أن تؤثّر إيجابيًا على المعرفة والسلوك في الأمدّ القريب على الأقل. ومن خلال تحسين المعرفة والسلوك، سيكون من الأسهل على المستهلكين تجنّب استخدام الائتمان الرقمي بأسعار باهظة أو الاستثمار في مخططات بونزية رقمية تعِد العملاء بعائدات هائلة على استثماراتهم. وتؤدي رابطات المستهلكين أيضًا دورًا هامًا في تعزيز قدرات المستهلكين وتمثيلهم بشكل أفضل أمام الهيئات الرقابية.  

هذا ولا بدّ من الاهتمام أكثر بموضوع محو الأمية المالية وكيفية تكمين العملاء من ذوي الدخل المنخفض من المشاركة في الاقتصاد الرقمي وتجنّب مخاطر الأمن السيبراني التي تتزايد عالميًا من خلال الثقافة المالية. وحتى الآن، كان يتم التركيز بشكل عام على محو الأمية المالية، ولكن مع نمو الاقتصاد الرقمي وما يرتبط به من مخاطر استهلاكية، بات مهمًا التركيز أيضًا على الثقافة المالية الرقمية.

لا يعرف جميع مزوّدي الخدمات الرقمية كيف يمكنهم التحوّل إلى نهج يركّز على العملاء، ممّا يعني أنّهم يفوّتون فرصة تحسين رضا العملاء وحمايتهم. لذلك، لتعزيز تركيزهم على العملاء في أعمالهم، يتعيّن على الإدارات والموظّفين لدى مزوّدي الخدمات المالية اكتساب المهارات التي تساعدهم على خدمة عملائهم، خاصّة النساء والعملاء الضعفاء، بشكل أفضل ومسؤول أكثر. كما تساعد الشهادات مثل تلك التي تقدّمها الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول "جي إس إم إيه" لمشغّلي شبكات الهاتف المحمول في كسب ثقة أطراف فاعلة أخرى في السوق مثل المستثمرين. ويمكن لمبادرات معيّنة مثل مجموعة العمل المعنية بالأداء الاجتماعي ومنتدى التمويل المسؤول أن تدعم مزوّدي الخدمات في سعيهم إلى اتباع ممارسات تتسمّ بمزيد من المسؤولية. 

ومع التطوّر السريع للمنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية، كثيرًا ما تواجه الهيئات الرقابية والاشرافية صعوبة في البقاء في الطليعة ومراقبة أسواق الخدمات المالية الرقمية بكفاءة. على سبيل المثال، ينبغي أن تتوفّر لها أطر قانونية ورقابية أساسية لحماية المستهلك المالي وأن تضع إجراءات مؤسسية تتيح تنفيذ هذه الأطر وإنفاذها، سواء من خلال صلاحيات أو من خلال إجراءات محدّدة في هيئات القطاع المالي. وهذا يتطلّب مزيدًا الموظّفين، والأدوات، والحوافز، والموارد لتحليل البيانات، ومراقبة السوق، بل وحتى تصحيح مساره متى أمكن، عندما يتم الكشف عن حالات يتم فيها التمييز ضد النساء أو مجموعات أخرى.  

ومع تزايد تهديدات المخاطر السيبرانية المرتبطة بالعملات المشفّرة، أصبح لا بدّ للهيئات المعنية بحماية المستهلك المالي تعيين الموظفين المتخصّصين في التهديدات المعقّدة المرتبطة بالتقنية، أو الاستعانة بالخبرات الخارجية في هذا المجال. كما يمكنها اكتساب معرفة جديدة من خلال المحافل الدولية مثل محافل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والمنظمة الدولية لحماية المستهلك المالي في ما يتعلّق بالهيئات المعنية بسلوك السوق، ومحافل وكالة الخصوصية العالمية في ما يتعلّق بالهيئات المعنية بحماية البيانات، ومحالف التحالف من أجل الشمول المالي في ما يتعلّق بمجموعة واسعة من الهيئات الرقابية، بالإضافة إلى الاجتماعات والدورات التدريبية التي تعقدها الهيئات المختصّة بوضع المعايير. وفي الوقت نفسه، يفتقر العديد من الهيئات إلى الموارد، ما يبرز الأهمية البالغة لدور الجهات المموّلة باعتبارها مصدرًا مؤقتًا للدعم.   

وبما أنّ الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية لا تدرك جميعها بعد الفوائد الناتجة عن تعزيز مسؤولية التمويل الرقمي، يجب أن تسعى جميع الجهات الميسّرة في السوق، بما فيها الجهات المموّلة، إلى التوعية بهذه الفوائد وتمهيد الطريق نحو منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي، وستساهم هذه التوعية أيضًا في توليد المزيد من الحوافز للتغيير ولحثّ الجهات الفاعلة على بناء قدراتها. ويمكن أن يؤدي ميسّرو السوق دورًا هامًا في تيسير فرص التعلّم، بما في ذلك تعلّم الأقران بين المجموعات، ويمكنهم استخدام التدريب والمساعدة التقنية وتبادل المعرفة. على سبيل المثال، يعمل مركز تورنتو على تعزيز قدرات هيئات القطاع المالي في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، بما في ذلك في مجال حماية المستهلك، ممّا يساهم في تسريع منحنى التعلّم في مختلف السلطات القضائية. كذلك، تعمل منظمة المستهلكين الدولية، وهي شبكة واسعة من رابطات المستهلكين، على تدريب رابطات المستهلكين الأعضاء على تنظيم التمويل الرقمي.

ونظرًا إلى أنّ القدرات تشير ضمنًا إلى توفّر الموارد والمهارات المناسبة، فقد يبدو أنها لا تناسب الاختصاصات القضائية ذات الموارد المحدودة. ومع ذلك، تنتشر حاليًا كتل بناء المنظومة البيئية في كافة الاختصاصات القضائية، ولقد سبق وبدأ العديد من الأطراف الفاعلة تُشارك في التمويل الرقمي. ويمكن أن تبدأ الجهود الرامية إلى تحويلها إلى منظومة بيئية مسؤولة بخطوات عملية صغيرة، مثل إنشاء جهة متفّرغة تكون مسؤولة عن تنظيم حماية المستهلك المالي والاشراف عليه ورصد السوق، على أن يتم تطورها مع توفّر المزيد من الموارد ومع بناء المهارات بمرور الوقت.

3.     يتطلّب التعاون علاقات منظّمة وبنّاءة بين الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية

يتعيّن أن يكون التعاون منظمًا وهيكليًا لكي يكون فعالاً وللحدّ من تشتّت النهج الحالي المعتمد في حماية المستهلك المالي. ولبناء منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي، يلزم توفير نوعين من أشكال التعاون: تحقيق التعاون بين الأطراف الفاعلة لتمكين الأطراف المماثلة في المنظومة البيئية من تبادل المعرفة من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق التعاون بين الأطراف الفاعلة المختلفة حتى يتسنى لها تحديد المخاطر على المستهلك والحدّ منها بشكل أفضل، وفي بعض الحالات تنسيق إجراءاتها بشكل أفضل.  

ولعلّ جنوب أفريقيا أحد أمثلة النجاح في التعاون بين الأطراف الفاعلة، حيث شاركت هيئة السوق في وضع مؤشرات  مع مزوّدي الخدمات لقياس مستوى خدمة المستهلكين وحمايتهم. وعلى نحو مماثل، تستطيع مكاتب الابتكار وبيئات الاختبار الآمنة مساعدة الهيئات الرقابية والمبتكرين في مجال التقنية المالية على فهم بعضهم البعض واعتماد نُهُج رقابية تهدف إلى إيجاد توازن بين الابتكار والحماية. وثمة نهج آخر تقوم الهيئات الرقابية بموجبه بوضع آلية رسمية، يشار إليها غالبًا بـ "لجنة المستهلكين"، للنظر في الآراء التمثيلية للمستهلكين، مثل هيئة رقابة السلوك المالي في المملكة المتحدة وغيرها من الهيئات الأخرى المتعددة القائمة في معظمها في الاقتصادات المتقدّمة. ونشرت مجموعة مستخدمي الخدمات المالية التابعة للمفوضية الأوروبية مقالة حول الإقراض غير المسؤول وتمّ بالاستناد إليها في مراجعة التوجيهات بشأن الائتمان الاستهلاكي، ممّا أبرز الحاجة إلى زيادة تعزيز الإقراض المسؤول وزيادة حماية المستهلك. 

أما في ما يتعلق بالتعاون بين الأطراف الفاعلة، يشكّل الائتمان الرقمي مثالاً جديرًا بالاهتمام. وقد تغطي الهيئة المعنية بالبيانات بعض مخاطره، مثل حماية بيانات المستهلكين، في حين قد تتناول الهيئة المالية شفافية التسعير. وفي بيرو حاليًا، تعمل الهيئات الرقابية للقطاع المالي وهيئة حماية المستهلك على وضع إطار مشترك لمراعاة وجهات نظر المستهلكين بشكل أفضل. ويمكن أيضًا لمزوّدي الخدمات المالية الرقمية التعاون من خلال أنواع مختلفة من المنتديات الخاصة والعامة، مثل مجموعة الشراكة بين الرؤساء التنفيذيين من أجل الشمول المالي المنظّمة من قبل المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدّة من أجل التنمية، حيث يسعى المشاركون إلى توسيع نطاق التمويل المسؤول خلال ممارسة الأعمال. ويٌعتبر التعاون في ما بين رابطات المستهلكين مهمًا جدًا أيضًا لبناء قدراتها والتأثير على اللوائح التنظيمية. على سبيل المثال، تدعم رابطات المستهلكين في منطقة رابطة دول جنوب شرق آسيا بعضها البعض في أنشطتها بتمويل من الوكالة الألمانية للتعاون الدولي.

رصد التقدّم المُحرز في بناء منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي 

تُعتبر مراقبة التقدّم الجماعي من جهة وقياس نجاحنا في حماية العملاء بشكل أفضل من جهة أخرى من المقوّمات الأساسية للمنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي. ووجود نظام امتثال يُعتبر بداية جيدة، ولكن لن يولّد القيمة تلقائيًا للعملاء أو مزوّدي الخدمة. قبل بضع سنوات، بدأنا في الدعوة إلى وضع إطار عمل رقابي وإشرافي لحماية المستهلك يسعى إلى التحقّق ممّا إذا كان العملاء يُعاملون معاملة عادلة ومسؤولة. إنّ مراقبة النتائج المترتّبة على العملاء هي العامل الرئيسي الذي يربط المقوّمات الثلاثة معًا في المنظومة البيئية، أي التركيز على العملاء، وبناء القدرات، وتحقيق التعاون.  

في منشور يستند إلى مشروع تجريبي في جنوب أفريقيا مع هيئة السلوك في القطاع المالي (FSCA) وخمسة مزوّدين للخدمات المالية، نبيّن أنه من الممكن قياس ما تشير "سيجاب" إليه بـ "النتائج الوسيطة المترتّبة على العملاء" (أي عندما يتم تصميم الخدمات وتقديمها لإعطاء العملاء ما وُعدوا به، وما يحتاجون إليه، وما يمكنهم توقّعه بشكل عادل، وبالتالي "تلبية هدف العميل". ثم تُترجم هذه النتائج الوسيطة إلى ممارسات في العمل وسياسات ولوائح تنظيمية وتصميمات، وتكون مصحوبة بمقاييس يمكنها تعقّب التقدّم.  

 

ورغم أنّ هذا النوع من القياس لا يزال تجريبيًا، فإنّ تركيزنا على النتائج الوسيطة يشير إلى أنّنا نشهد سلسلة متّصلة من النتائج التي قد تُساهم في تحقيق الصحة المالية والرفاهية، وتعزيز في النهاية القدرة على الصمود، وذلك نتيجة لتمكين العملاء من التحكّم أكثر في وضعهم المالي ومواجهة الصدمات المالية بشكل أفضل. وتجدر الإشارة إلى أنّ صانعي السياسات ومزوّدي الخدمات يبذلون جهود متزايدة لقياس الصحة المالية للناس بما يتجاوز النتائج الوسيطة. ومع ذلك، نعتقد أنه يجب التركيز أولاً، وقبل كل شيء، على النتائج الوسيطة لأننا ندرك أنه إذا كانت تجربة العميل سيئة مع مزوّد خدمات مالية رقمية في بداية الرحلة، فلن يتم بلوغ نتائج عالية المستوى. 

ما هي الخطوات التالية لبناء هذه المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي؟ 

مع الطبيعة المتغيّرة لمخاطر المستهلكين وارتفاع عددها، يتعيّن على جميع الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية أداء دورها في استيفاء هذه الشروط الثلاثة الضرورية، أي التركيز على العملاء، وبناء القدرات، وتحقيق التعاون، والتي يجب الاستناد إليها في بناء منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي. ولكن في البداية، لا بدّ للأطراف الفاعلة فهم أولاً المخاطر التي يتعرّض لها المستهلك، وخاصةً النساء والفئات الضعيفة، ومن ثم بناء الحلول، التي ستختلف بناءً على خصائص البلدان وبحسب السياق المحلي. 

حاليًا، تعمل "سيجاب" على اختبار نهج المنظومة البيئية المسؤولة للتمويل الرقمي هذا ضمن منطقة الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب افريقيا من خلال مختبر حماية المستهلك في ما يتعلق بالخدمات المالية الرقمية، والذي هو عبارة عن مشروع بحثي يبدأ بشكل منهجي بأبحاث حول المستهلكين ويهدف إلى مساعدة الهيئات الرقابية والهيئات الاشرافية الإقليمية ورابطات المستهلكين والهيئات الوطنية ذات الصلة في وضع الأطر الرقابية والإشرافية، ودعم مزوّدي الخدمات المسؤولين في ترسيخ ثقافة تركّز على العملاء في كافة مراحل دورة حياة منتجات الخدمات المالية الرقمية، بالإضافة إلى تسهيل الحوار بين الهيئات الرقابية والاشرافية ومزوّدي الخدمات والمستهلكين حول الخدمات المالية الرقمية المسؤولة. ونحن نسعى إلى الجمع بين الأطراف الفاعلة من المنظومة البيئية، بهدف تعزيز تركيزها على العملاء وقدراتها والتعاون في ما بينها.  

وإدراكًا منّا أنّ توفير منظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي يحتاج إلى الوقت ويتطلبًا بذل الجهود من جانب جميع المتعاونين، فإننا لا ندعو إلى ولا نروّج لنهج سريع يمكن تنفيذه بين عشية وضحاها. فهذه رحلة طويلة، وليست سباقًا. ولكن نقطة البداية تكمن في إدراك أننا لا نبدأ من الصفر. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأساس الذي تقوم عليه هذا المنظومة البيئية قائم حاليًا في معظم البلدان، ويستطيع كل طرف فاعل في المنظومة البيئية أن يحسّن تركيزه على العملاء، وأن يبني القدرات، وأن يتعاون مع الجهات الأخرى بشكل أفضل. 

ونحن لا نزال في المراحل المبكرة جدًا من عملية ابتكار هذا النهج الشامل. وبينما نمهّد الطريق بشكل جماعي لمنظومة بيئية مسؤولة للتمويل الرقمي، ندعوكم إلى المشاركة في الحلّ إذا كنتم مهتمين في التمويل الرقمي. فكيف يمكنكم تعزيز الحوار والإجراءات الملموسة التي تربط بين مختلف الأطراف الفاعلة في المنظومة البيئية حيث تعملون؟ وكيف يمكنكم مساعدة بلدكم أو الدول الأخرى على وضع أنظمة وآليات اشرافية وخدمات مالية رقمية تركّز أكثر على العملاء؟ وما الذي يمكننا القيام به لتعزيز مسؤولية المنظومة البيئية للخدمات المالية الرقمية بما يتجاوز التركيز على العملاء وبناء القدرات والتعاون؟ فالإجابة على هذه الأسئلة هي بداية مساهمتكم.

____________________________________________________________________________________________

* نعني بالخدمات المالية الرقمية أي نوع من الخدمات المالية (على سبيل المثال، المدخرات، والائتمان، والمدفوعات، والتأمين) التي يمكن للعملاء الوصول إليها رقميًا من خلال الهاتف أو البطاقة.

**  يُستخدم  مصطلح "العملاء" لوصف المستخدمين الحاليين للخدمات المالية الرقمية، بينما يُستخدم مصطلح "المستهلك" لوصف المستخدمين الحاليين (العملاء) وغير المستخدمين والمستخدمين المحتملين.

 

اترك تعليق

يقوم فريق تحرير البوابة بمراجعة وإدارة نشر التعليقات. نرحب بالتعليقات التي تقدم ملاحظات وأفكار ذات صلة بالمحتوى المنشور. تعلم المزيد.