مدونة البوابة

قطاع التمويل الأصغر بالسودان ما بين الآثار المتوقعة من فيروس كورونا وإدارة الجهات الفاعلة للأزمة

تصوير صلاح الدين نادير، البنك الدولي.

 

تبدو الرؤية الإقتصادية الكلية شديدة القتامة ويكتنفها الغموض في ظل التداعيات العميقة على الإقتصاد والتي لا تزال مستمرة بسبب تفشي وباء الكورونا المستجد (COVID-19)، ولا يخلو قطاع أو جزء من المكونات الإقتصادية المختلفة إلاّ عصفت به رياح هذه الشدة وقطاع التمويل الأصغر بالسودان ليس إستثناءاً من هذه المنظمومة.

إن قطاع التمويل الأصغر في السودان ربما أكثر القطاعات تأثراً بالأحداث الإقتصادية الجارية لهشاشته ورخاوته في مقاومة الصدمات والأزمات الإقتصادية حتى وإن كانت عابرة ناهيك عن هذه الجائحة المستمرة. إن تداعيات كورونا علي القطاع المالي بصورة عامة وقطاع التمويل الأصغر بصورة خاصة تمتد إلي أبعاد ودرجات سحيقة لا يمكن التنبوء بمآلاتها في المستقبل المنظور، حيث أن قطاع التمويل الأصغر بالسودان يوجد به حوالي 45 مؤسسة أو شركة تمويل أصغر تقريباً مرخص  لها من قبل بنك السودان المركزي لتقديم الخدمات التمويلية للعملاء للفئات الأشد تعرضاً للخطر؛ خاصة في مثل هذه الظروف. وتتشكل هذه المؤسسات من مؤسسات تقبل الودائع وفق الضوابط الموضوعة لذلك وعددها أربع مؤسسات والبقية مؤسسات مالية غير مصرفية تمثل أكثر من 90% من جملة هذه المؤسسات ويجدر هنا إلى أن التأثير سيكون شاقاً و شديد القسوة علي معظم هذه المؤسسات والفئات المخدومة كذلك نسبة لأن غالبية هذه المؤسسات لم يصل إلي الإستدامة المالية والتشغيلية والتي تمثل نقطة التعادل وفق أبجديات التمويل الأصغر المتعارف عليها عالمياً.

إن تأثير فيروس كورونا المستجد علي قطاع التمويل الأصغر بالسودان يمتد إلي كل سلسلة الإمداد المنضوية تحت العملية التمويلية من موفري خدمات التمويل بالجملة، مؤسسات وشركات التمويل الأصغر ووسطاء ماليين والجهات الأخري المساندة كضامني التمويل بالجملة وغيرهم والتي تمثل جانب العرض، إنتهاءاً بعميل التمويل الأصغر (جانب الطلب)، مما يجعل هذا القطاع هو الحلقة الأضعف ضمن هذه الدائرة، ومما يزيد الأوضاع تأزماً وتعقيداً لهذا القطاع الأوضاع الإقتصادية المأزومة أصلاً والتي لا تبشر بحلول منظورة تلوح في الأفق.

إنّ الآثار المترتبة علي قطاع التمويل الأصغر بالسودان غشيت كل شركاء العملية التمويلية لكن هذه الآثار تختلف درجتها من شريك لأخر وفق المناعة والحصانة المالية التي يتمتع بها كل طرف لكن الحلقة الأضعف والأكثر تأثراً بلا أدني شك هو عميل التمويل الأصغر  في مواجهة وإمتصاص مثل هذه الصدمات الإقتصادية القاسية المتطايرة هنا وهناك.

ويمكن إستعراض أهم أو بعض الآثار والإنعكاسات علي قطاع التمويل الأصغر:

  • تأخر سداد أقساط التمويل المستحقة للمؤسسات طرف عملاء التمويل الأصغر بسبب الإغلاق شبه الكامل للأسواق وتباطوء النشاط الإقتصاد مما يؤثر مستقبلاً علي حجم الإيرادات بالمؤسسات وبالتالي حجم الأرباح ومن ثم تحقيق الإستدامة المالية والتشغيلية أو نقطة التعادل.
  • تأخر سداد الإلتزامات القائمة طرف مؤسسات أو شركات التمويل الأصغر لموفري التمويل بالجملة من مصارف وغيرها بسبب تأخر سداد العملاء لأقساط التمويل وبالتالي التأثير علي عمليات التمويل بالجملة مستقبلاً.
  • إرتفاع درجة تصنيف المخاطر طرف الجهات الضامنة للتمويل بالجملة كوكالة ضمان التمويل الأصغر (تيسير) وشركات تأمين وغيرها.
  • إرتفاع مديونيات عملاء التمويل الأصغر بسبب تراكم الأقساط المستحقة السداد مما يقود العميل إلي ثقل المديونية وتآكل أصول المشروع.
  • إزدياد الإستهلاك مقابل الإنتاج لدى عملاء التمويل الأصغر بسبب الترتيبات الصحية من عمليات حجر وغيرها من تقليل لساعات العمل مما يؤثر علي إستمرارية المشروع.
  • تدني إنتاجية ضباط التمويل بالمؤسسات بسبب تقليص ساعات العمل، حيث أن إنتاجية ضابط الإئتمان بالمؤسسات من المؤشرات الرئيسية لجودة محفظة التمويل بالمؤسسة.
  •  تآكل محافظ التمويل بالمؤسسات والتي هي من الأصول الإيرادية الرئيسية بالمؤسسات.

وكإستجابة للتخفيف من آثار فيروس كورونا المستجد علي قطاع المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة، فقد إتخذت الكثير من الدول عدد من الإجراءات والتدابير المالية التي من شأنها أن تعمل علي تشجيع وتحفيز هذا القطاع في ظل هذه الجائحة وفقاً للتحالف الدولي للشمول المالي، فمثلاً  البنك المركزي الأردني قام بإصدار تعميم لإعادة جدولة الديون علي المنشآت الصغرى والصغيرة والمتوسطة، كما قام بنك مصر المركزي بتخفيض أسعار الفائدة لتمويل المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة إلي أدنى مستوى مع منح ميزة إعفاء الديون لأصحاب التمويل الصغيرة المتعثرين، وفي ذات السياق قام المصرف المركزي النيجيري بتخصيص حزمة إنقاذ بمبلغ 128 مليون دولار لقطاع المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة، كما أصدر المصرف المركزي المكسيكي تعميماً بتأخير سداد القروض على المنشأت الصغرى والصغيرة والمتوسطة إلي ستة أشهر. وأود الإشادة بمصرف إتحاد دول غرب أفريقيا حيث قام  بإلغاء الرسوم البينية على التحويلات بين الدول الأعضاء. وفي إطار سياسات حزم الإنقاذ فقد حذا مصرف ماليزيا المركزي حذو أقرانه من المصارف المركزية حيث وفر حزمة بمبلغ 918 مليون دولار لقطاع المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة.  هذه  بعض الأمثلة في إطار سياسات الدعم التي إنتهجتها بعض الدول لإنقاذ قطاع المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة في ظل أزمة كوفيد-19.

وللتخفيف من النتائج الكارثية علي قطاع التمويل الأصغر ينبغي على الفاعلين وجميع أصحاب المصلحة بقطاع التمويل الأصغر بالسودان التفاعل والتحرك الفوري لإنقاذ القطاع وتقديم الدعم المناسب والملائم على أن يكون ذلك بقيادة بنك السودان المركزي. فمثلاً يمكن للبنك المركزي من خلال الأدوات المالية والرقابية المختلفة التي يستخدمها أن يقوم بتخفيض نسبة الإحتياطي القانوني للمصارف بشرط أن يتم توجيه نسبة التخفيض هذه إلي تمويل قطاع التمويل الأصغر بقيود وشروط ميسرة. كما يمكن للبنك المركزي أيضاً أن يدعو المصارف إلي تكوين محفظة طواريء خاصة لتمويل المؤسسات في هذه المحنة التي تضرب جميع القطاعات الإقتصادية في عمق حتي لا نفقد هذه الصناعة المهمة.

من جانبها ينبغي علي المصارف أن تقوم بتآخير آجال عقود عمليات التمويل بالجملة مع مؤسسات وشركات التمويل الأصغر مع تخفيض في نسب الأرباح و الهوامش إلي أدني مستوياتها. في ذات المضمون ينبغي علي مؤسسات التمويل الأصغر القيام بدورها تجاه عملائها وذلك بتمديد آجال عمليات التمويل القائمة وتأخير الأقساط لفترات طويلة مثلاً ست أشهر أو إعطائهم فترات سماح طويلة حتي إنجلاء هذه الجائحة، كما يمكن لمؤسسات التمويل الأصغر أيضاً أن تقوم بمنح تمويلات جديدة لعملائها بشروط ميسرة أو قروض حسنة بالإضافة إلى تخصيص خط إتصال ساخن للتواصل مع العملاء ومعرفة أحوالهم عن قرب، فعملاء التمويل الأصغر هم المنطقة الرفيعة في الدائرة الإقتصادية.

في ظل هذه الظروف الإستثنائية التي تحتم التقليل من التعامل المباشر بين عملاء التمويل الأصغر ومؤسساتهم، يمكن للمؤسسات أن تقوم بإدخال أو زيادة نسب التحصيل الإلكتروني عبر المحافظ الإلكترونية وتفعيل خدمة تحويل الرصيد للذين يرغبون في سداد ما عليهم من أقساط مستحقة من العملاء في خضم هذه الظروف العارضة.

إذا كان لقطاع التمويل الأصغر السوداني أن ينجو من هذا الوباء، فنحن بحاجة إلى معاملة فيروس كورونا كتهديد جوهري ومحدق بهذه الصناعة. نريد أن يبدأ كل أطراف هذه الصناعة (البنك المركزي، المصارف،المؤسسات الأخرى المساندة، مقدمو الخدمات غير المالية، مؤسسات وشركات التمويل الأصغر..الخ) في حشد جهودهم ومناصرة بعضهم بعضا خلف تيسير شروط التمويل التي لايستطيع الممولين الوفاء بها عندما تتوقف الأنشطة الاقتصادية كلياً أو جزئياً، والتعامل مع عجز السيولة في مؤسسات التمويل الأصغر، والاستعداد لإعادة رسملتها حتى تتمكن من إستئناف عمليات التمويل والقيام بدورها الحيوي في التعافي بمجرد إنحسار الأزمة.

وخلاصة القول أن سرعة الإستجابة والمواكبة للمستجدات والإفرازات الإقتصادية لفيروس كورونا علي قطاع التمويل الأصغر السوداني هي التي ستصنع الفارق من حيث التغلب أو التخفيف من النتائج غير المرغوبة على القطاع ، حيث  يمكن أن تكون الإستجابة بتغيير السياسات والخطط و قيام كل جهة بدورها دون الإنتظار الآخرين ليبادروا، فإما أن نتحرك أو الإنتظار ثم الفناء أو المعانأة لفترات قد تكون طويلة على قطاع يفرد كلتا يديه للإمساك بلا شيء في ظلمة إقتصادية كلية شديدة العتمة.

 

اترك تعليق

يقوم فريق تحرير البوابة بمراجعة وإدارة نشر التعليقات. نرحب بالتعليقات التي تقدم ملاحظات وأفكار ذات صلة بالمحتوى المنشور. تعلم المزيد.